وليس صحيحاً ما يحاول تسويقه بعض "المثقفين التقنيين"، الخارجين من حواشي السلطة، الذين يعتبرون أن تدين شباب الانتفاضة يدخل في خانة الإسلام السياسي، من باب "السلفية الشعبوية"، إذ إن واقع الأمر يدحض مثل هذا التزييف المتعمد، ذلك أن الانتفاضة تجمع الناس من مختلف المشارب والانتماءات، ضمن حراك احتجاجي اجتماعي، يتطلع إلى الحرية والعدالة، وتديّن معظمهم يدخل في إطار ما يمكن وصفه تيار الإسلام الاجتماعي العام، حيث يشكل الإسلام، بالنسبة إليهم، مرجعاً أخلاقياً، يوجه سلوكهم، ويضبط نوازعهم، ويحدد وجودهم في عالم اليوم، فيما السلفية والنوازع الطائفية التي يحاول بعضهم تسويقها، مقصود لها أن تلتقي مع مزاعم السلطة وقوى النظام، وتدخل في باب التغطية على اصطفافهم في مراكز الارتزاق.
واللافت هو تكييف شباب التنسيقيات لأدوات التواصل الإلكترونية والمعلوماتية وتسخيرها في خدمة الحراك الاحتجاجي، سواء من خلال التحشيد وتصميم الشعارات أم من خلال تحقيق إجماع احتجاجي عام، بعيداً عن قيود ورقابة أجهزة النظام الحاكم. وبالتالي ظهرت أجيال جديدة، يحركها قادة من الشباب أنفسهم، لا ينتمون إلى حزب معين، ولا يعتنقون أيديولوجية معينة، ويحذوهم الإحساس العميق بالخلاص من الظلم والإذلال والإحباط واليأس وانعدام الأمل بإصلاح الأوضاع القائمة.
واختاروا طريق الخلاص بالانتقال من حالة انسداد الأفق إلى مواقع الفعل الاجتماعي، وتمكنوا من الاستفادة القصوى من إمكانياتهم، فاكتسبوا جرأة التفكير والتنسيق، والتعبير عن تطلعاتهم وتوقهم للحرية والتغيير وقيادة الحراك الاجتماعي الاحتجاجي.
وتتألف التنسيقية من مجموعات من الشباب المتطوعين، الذين يتقاسمون العمل بحسب تخصص ومهارة كل واحد منهم، فيقومون باقتراح أسماء مظاهرات أيام الجمعة وسائر أيام الأسبوع الأخرى، واختيار وكتابة اللافتات والشعارات، وتنظيم مسار التظاهرات، وتصوير أماكن وأحداث التظاهرات، ونقلها إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك وتويتر، وإرسالها إلى مختلف وسائل الإعلامية العربية والعالمية، وإلى لجان ومنظمات حقوق الإنسان، إضافة تأمين بعض حاجات عائلات الشهداء، وجمع الدعم المادي لها، وتأمين وإسعاف الجرحى، وتوفير الأدوية ومتطلبات المشافي الميدانية البديلة عن المشافي الحكومية، وسوى ذلك.
ولا شك في أن التنسيقيات هي الشكل التنظيمي المناسب للحراك الاحتجاجي، والفاعلة ميدانياً، وشكلت البديل الميداني والعملي لمختلف الأحزاب والتنظيمات السياسية المعارضة، حيث تجاوزتها كثيراً في العمل على الأرض، وفي التنظيم والتحشيد واستخدام التقنيات ووسائل الاتصال الحديثة، التي تفتقر إلى توظيفها واستخدامها معظم الأحزاب السياسية السورية. وقد تعرض العديد من أعضاء التنسيقيات إلى الاعتقال والتعذيب والتصفية الجسدية.
وانتشرت لجان التنسيق بكثرة في مختلف أحياء المدن، وينطبق ذلك على سائر البلدات والقرى السورية، من محافظة درعا جنوباً إلى القامشلي شمالاً، ومن اللاذقية ومختلف مناطق الساحل وصولاً إلى البوكمال شرقاً. ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، بذل نشطاء الانتفاضة جهوداً لتنسيق العمل بين مختلف التنسيقيات، فتشكلت هيئة جامعة، سميت "الهيئة العامة للثورة السورية".
الهيئات والمجالس
لقد وجدت أحزاب المعارضة التقليدية السورية، بمختلف أطيافها الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية، في حال لا تحسد عليها منذ بداية الانتفاضة، كونها لم تشارك في اندلاع شرارتها، ثم عندما بدأت الانتفاضة ترددت -في البداية- في المشاركة بفعالياتها. في حين أن بعض الناشطين السياسيين والمثقفين كانوا يتساءلون عن أسباب تأخر الشباب السوري، وعدم تأثره بثورتي تونس ومصر، ليجدها في خصوصية الحالة السورية، من نظام وتركيبة اجتماعية وسياسية، وغير ذلك.
ومع ازدياد زخم الانتفاضة، الذي اشتّد مع تزايد نزيف دماء المحتجين، اقتصرت مشاركة بعض الأحزاب على الشباب المتحمسين، الذين تصرفوا بشكل فردي، ثم أعلنت بعض الأحزاب والقوى، وخاصة التي تشكلت في الفترة التي عرفت بـ"ربيع دمشق"، عن مشاركتها في الحراك.
ثم وجدت قيادات المعارضة السياسية نفسها وكأن القطار قد فاتها، وأنها كانت تنتظر في المحطة الخاطئة التي غادرها، فراحت تحث الخطى كي تلحق بركب الانتفاضة، وتستعجل عقد اللقاءات والمؤتمرات، في الداخل والخارج، وبشكل ينمّ عن افتقارها للخبرة السياسية ولوضوح الرؤية، كونها باتت تعلم أن عليها رفع شعار إسقاط النظام، الذي يرفعه المحتجون في الشوارع السورية، بكل ما يعنيه، وهو أمر لم يك في حسبانها، ولم تدرجه في برامجها المتقادمة.
كما أنها غير قادرة على مجاراة ما يطالب به المنتفضون، كونه يحدّ من قدرتها على القيام بدورها السياسي، وعلى الإمساك بزمام المبادرة السياسية، فضلاً عن أنها لم تمكن من نسج علاقات وروابط كافية مع مختلف التنسيقيات والقوى التي تتحرك على الأرض.
وألقت الانتفاضة مهام جديدة على المعارضة السورية، وكان أكثرها إلحاحاً هو تشكيل مجلس أو ائتلاف سياسيّ يجمع جهود عملها وتوجّهاتها، ويشكل رافعة سياسية لحراك المنتفضين ومطالبهم في نيل الحرية والكرامة، إضافة إلى العمل والتواصل مع نشطاء التنسيقيات، ومهام أخرى عديدة.
ولم تك أحزاب المعارضة التقليدية قادرة -بسبب الغياب القسري عن العمل السياسي- على الاستجابة لمتطلبات العمل السياسي الجديد، وعدم تمكنها من التواصل مع الميدان بسبب بنية أحزابها المترهلة.
وبدا على أحزابها الارتباك والاستعجال، فيما تزداد الانتفاضة زخماً، فراح بعض الناشطين من الأحزاب التقليدية، إضافة إلى النشطاء المستقلين والمثقفين النقديين، يبحثون عن صيغة مناسبة لتوحيد صفوف المعارضة. وجرى في هذا السياق عقد لقاءات ومؤتمرات عديدة، داخل سوريا وخارجها.
وفي سياق تحولات المشهد السياسي السوري، نشأت تشكيلات وتكوينات مدنية وسياسية معارضة، مثل "حركة معا"، و"تجمع نبض للشباب المدني"، و"تيار بناء الدولة السورية"، و"ائتلاف اليسار السوري"، و"رابطة العلمانيين السوريين"، وسواها. وهي تضم في الغالب مثقفين مستقلين وناشطين، وأغلبها ذات فعالية محدودة في المشهد السياسي العام، ومكونة من عدد من شخصيات ناشطة ومعارضة ومستقلة وثقافية.
كما ظهرت تشكيلات معارضة قريبة من النظام، ومدعومة من طرفه، بل وتزاود على أطروحاته. لكن أهم ما تمخض عنه المشهد السياسي المعارض، بعد عقد عدد من اللقاءات والمؤتمرات، داخل سوريا وخارجها، هو تشكيل المجلس الوطني السوري، الذي انضمت إليه قوى وأحزاب سياسية وتنسيقيات فاعلة على الأرض، إلى جانب شخصيات فكرية وسياسية مستقلة، وتشكيل "هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديمقراطي"، التي ضمت أحزاباً وقوى تقليدية، وبعض الشخصيات المعارضة المستقلة، التي انسحب بعضها من الهيئة، بعد فترة قصيرة من تشكيلها.
.newsMap { margin-right:-6px; width:424px; } .newsMapIE { margin-right:-6px; width:426px; } .channelMap { width:396px; } .channelMapIE { margin-right:1px; width:394px; } .encyclopediaMap { margin-right:-9px; width:539px; } .encyclopediaMapIE { margin-right:-9px; width:540px; } .knowledgegateMap { margin-right:-5px; width:410px; } .knowledgegateMapIE { margin-right:-4px; width:407px; } .ebusinessMap { margin-right:-5px; width:400px; } .ebusinessMapIE { margin-right:-4px; width:396px; } .economicCoverageMap { margin-right:3px; width:736px; } .economicCoverageMapIE { margin-right:-2px; width:736px; }